02 Feb
02Feb

جذور مصطلح الحوكمة، ومتطلبات الوعي بها 


يتردد مصطلح الحوكمة كثيراً على مستوى مساهمات الناشطين في مجال الفكر، والأكاديميا، والسياسة، والمجتمع المدني، وذلك عند الحديث عن الحكم الرشيد. ومن الملاحظ أن هذا المصطلح ينطرح في العديد من المحاور المتصلة بالجدل المجتمعي، ومع ذلك يرتبط في ذهن الكثيرين بالسلطة الحاكمة، وقضايا الفساد تحديداً.  

في هذه المقال نتناول مفاهيم تتعلق بهذا المصطلح، وكيف استطاع أن يفرض نفسه في الآونة الأخيرة على وسائل الإعلام، وكذلك في دوائر المعنيين بالتحولات المجتمعية.   

ومع بروز مصطلحات متعددة للحوكمة، تنطرح أسئلة كثيرة عما تعنيه للمواطن والمواطنة في بلادنا: هل توجد حوكمة شاملة وأخرى غير شاملة، وماذا عن الحوكمة الفاعلة أو الجيدة؟ وهل يعني ذلك أنه توجد حوكمة حسنة، وأخرى على النقيض؟  وهل توجد حوكمة غير ديمقراطية؟ 

 إذن ماذا يعني بالضبط مفهوم الحوكمة، ولماذا يستصعبه بعض المعنيين بالأمر، وينظرون إليه من مفهوم ضيق يتعلق بمحاسبة القادة، ومحاربة الفساد تحديداً، وفي ظل كثرة النقاش عن الشفافية، والمساءلة بوصفهما من ضمن مبادئ الحوكمة، فكيف لنا إذن تفهم هذا المصطلح بصورة مبسطة، وضرورة الاهتمام به؟ 

 

الحقيقة أنه لكي يتحقق حلم الوطن الديمقراطي الذي تسود فيه الحرية، والسلام، والعدالة، لابد من وجود نظام أساسي مقبول للجميع على جميع المستويات مع تفاوت المهام، والواجبات. فالمواطن مرجوٌ فيه الالتزام بمبادئ المواطنة الصالحة لمعرفة حقوقه، وتطبيق ما عليه من الواجبات التي تتدرج من مبدأ احترام القانون إلى مبدأ المشاركة في نظافة الحي. كما تشمل حقوقه وفقاً لما ينص عليها الدستور، وما التزمت به الدولة من توفير الخدمات في مجالات التعليم، والصحة، والأمن، والضمان الاجتماعي، وحماية الحقوق. 

إذن، فالحوكمة علاقة متوازنة بين المواطنين والمواطنات، وما بين القوي الأخرى السياسية، والمدنية المؤثرة على المجتمع، وعلى رأسها السلطة الحاكمة. لكنها أيضا تشمل الأحزاب السياسية، والنقابات، ومنظمات المجتمع المدني، والإدارات الأهلية والشعبية. 

إن حوكمة المنظومة السياسية هي ضمان للنزاهة في العمل العام، وأداء المجتمع المدني، وشفافية الأحزاب السياسية، ونجاح الانتخابات، وتجانس الإدارات الأهلية. 

فكل فرد أو مجموعة مطالب بمراجعة مبدأ الالتزام بأسس الحوكمة، وتطبيقها حتى يتسنى للجميع المشاركة، وتأسيس النظام الديمقراطي الذي يضمن الحرية، والسلام، والعدالة، على مختلف المستويات السياسية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، على أن ينفذ مبدأ المساواة، واحترام التعددية، والاختلاف، وحق المشاركة للجميع دون إقصاء.

 

تطبيق الحوكمة هي مسؤولية الجميع

 

عندما نتحدث عن الحوكمة الشاملة نعني تطبيقها من الجميع "المواطن وموظف الدولة، وموظف القطاع العام، والخاص، ورئيس الدولة". كذلك يجب أن تشمل كل النواحي الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والحقوقية. فالتطبيق الجزئي لأسس الحوكمة غير مجدٍ، وغير فعال. أما تفعليها المباشر  الشامل، وتطبيقها، ومراقبة ذلك هو ما يعرف بالحوكمة الفاعلة. فالكثير من الدول تسن التشريعات، والقوانين، وتصادق على المعاهدات الدولية، وتعد كتيبات عن محاربة الفساد دون أن تطبق أياً منها، وهكذا تظل هذا الأسس حبيسة الأوراق، والملفات، والتقارير.


إن من الأعمدة الأساسية لاختبار نجاح النظم الحاكمة، وتحقيق الحوكمة، هو الحق في الحصول على المعلومات، ونشرها. فمشاركة المعلومة للبحث العلمي، والتخطيط، ورفع الوعي المجتمعي، لديها انعكاسات إيجابية على المشاريع التنموية، وتحقيق النهضة، واستدامتها. ذلك إذا نظرنا الي أهمية ذلك في ظل جائحة (كوفيد ١٩) المستجد، وكيف لعبت عملية نشر الأبحاث، والمعلومات، دورًا محوريًا في التصدي لهذا الخطر الأممي. 

 

الحوكمة الديمقراطية تهدف لتحقيق رفاهية الشعوب

 

إن محاربة الفقر ترتكز على مبدأ تطبيق أسس الحوكمة من تعليم، وصحة، وضمان اجتماعي، وحقوق إنسان، وحماية البيئة. لذلك فإن غياب هذه الأسس خاصة على مستوى السلطة المحلية في المدن، والأرياف، يزيد من شدة مستوي الفقر.

 يتحدث الكثيرون عن الحوكمة غير الديمقراطية في المؤسسات، خصوصاً الدولية المعنية بقضايا الديون، والقروض المالية. إن إيجاد آليات دولية لإصلاح هذه المؤسسات لمنع تفاقم الفقر  يمثل عاملاً محورياً للتصدي، ومحاربة الكوارث الاقتصادية كما تنتج، وتعزز النظم الديمقراطية العادلة للإفراد، والجماعات، دون تمييز، وتمنع النزاعات، والعنف من أجل تقاسم السلطة، والموارد الطبيعية.

 

الافتقار الي الحوكمة يقلل من فرص التنمية المستدامة

 

إن مبدأ الحوكمة الفاعلة، والشاملة، يبدأ من الأفراد من خلال الالتزام بصفات المواطنين الصالحين المدركين لحقوقهم، وواجباتهم، ويمتد إلى المؤسسات العامة، والخاصة، وكذلك إلى السلطات الحاكمة محليا، وقومياً. ليس هذا فحسب بل يطبق أيضاً على المؤسسات الإقليمية، والدولية المعنية بحقوق الإنسان والأمن، والمال، والصحة، والتعليم، والسيطرة على الموارد الطبيعية، بالتنسيق العالي، والمراقبة، وتعزيز مبادئ الشفافية والنزاهة، والمساءلة. ومرة أخرى فإن التعامل مع جائحة (كوفيد ١٩) المستجد، وتوفر الملابس الواقية للكوادر الصحية، وتوفر تصنيع الأكسجين للمرضى، وفرصة الحصول على المصل..جميع هذه القضايا يعكس الاهتمام بالأسس الأولية للحوكمة على المستوي الإقليمي، والدولي. 

إن الحوكمة الديمقراطية لجميع الشعوب، والمجتمعات المحلية، والدولية، هي انعكاس لتطبيق الحوكمة الفاعلة الشاملة دون إقصاء أو إهمال أو تجميد لأيٍ من أعمدتها الأساسية، والعمل المتناسق بينها لصنع المناخ الملائم لمحاربة الفقر، وتوظيف الموارد البشرية، والطبيعية لرفاهية شعوب هذه المجتمعات.


في الجزء الثاني من المقال سنتناول أهمية رفع الوعي المجتمعي، ونشر برامج الحوكمة وسط الجيل الجديد من البنين والبنات، واليافعين، وبرمجة المجتمع لتطبيق و مراقبة أسس الحوكمة، كيف تتشكل وتنفذ؟

 

سارة إبراهيم عبد الجليل

أستاذ طب الأطفال، وصحة الطفولة  (حوكمة الخدمات الصحية، الجودة، سلامة الممارسة الطبية)

عضو منظمة برامج الحوكمة 




Comments
* The email will not be published on the website.