27 Nov
27Nov

من الحشد إلى التنظيم

(ندوة إسفيرية، بعنوان "الثورة السودانية من الحشد إلى التنظيم"، استضافة منبر المغردين السودانيين، 26 نوفمبر 2021)

 

قصي همرور

 

ما الفرق بين الحشد والتنظيم
لماذا التنظيم مقدّم على الحشد حاليا
ما هي معالم أو طرق الانتقال من الحشد إلى التنظيم
قضايا متعلقة

 

الفرق بين الحشد والتنظيم

هنالك فرق كبير بين الحشد والتنظيمكان كوامي توري، الناشط والكاتب السياسي المخضرم المنتظم في الحركة الاشتراكية والحركةالأفروعمومية (منذ حركة الفهود السود وإلى ما بعدها)، يقول دوما إن الجماعات المضطهدة والمهمشة، في أي مكان في العالم، لا يمكنها خدمة قضاياها بصورة فعالة إلا عن طريق العمل التنظيمي(organization)، وأن الحشد (mobilization) لا يكفي. العمل التنظيمي لا يعني الأحزاب بالضرورة وإنما يشملها (ومنها أيضا النقابات والهيئات الشعبية وبعض منظمات المجتمع المدني، وحتى الحركات المسلحة)، فجميع الحركات والمنظمات ذات الأجندة المتماسكة والهيكل التنظيمي القادر على إصدار قرارات وتفعيلها وتعهدها لفترة مستدامة وبأدوات موضوعية، هي تنظيمات. الحشد، في الجانب الآخر، عادة ما يستثمر إحباطات أو غضب الجماعات كيما يتبلور في حدث معيّن أو أحداث محدودة – مظاهرة، مسيرة، حملة، اعتصام عام، إلخ – لها في الغالب مطالب محدودة تسعى لدفعها، أو أحيانا لديها تطلعات عامة تريد التعبير عنها ولكنها لا تملك أجندة وهياكل لتنفيذها. يجب التمييز بين الحشد ومحدودياته في مقابل التنظيم وقدراته. عمليات الحشد ليست سهلة، فهي تستنفد طاقة كبيرة، وكثيرا ما يتصدى لذلك المجهود أناس أصحاب همّة وحماس وقدرة على فنون الحشد. وبعض مظاهر الحشد تفلح في إيصال رسائل قوية كما تجد تغطية إعلامية كبيرة في العادة، كونها طفرات على الواقع اليومي الرتيب. رغم ذلك فالتنظيم أشمل وأدوَم، والحشد قد يقود لدفع بعض القضايا المختارة، أما التنظيم فيقود لدفع منظومات ورؤى، أي أكثر من قضايا متفرّقة. يقول كوامي توري إن التنظيم الثوري يتطلّب بناء وعي نقدي، بينما الحشد قد لا يحتاج إلى وعي.

 

لماذا التنظيم مقدّم على الحشد حاليا

إذا نظرنا لتاريخ حالات التغيير في المجتمعات الحديثة، في عموم العالم، سنجد أن التغييرات الكبيرة، النوعية، المستدامة، كانت وما زالت وراءها تنظيمات وليست حشود. أولا التنظيمات يمكنها استعمال الحشود في بعض تكتيكاتها ولكن العكس غير صحيح عموما. في أمريكا الشمالية مثلا فقد حققت حركة الحقوق المدنية وحزب الفهود السود وحركة “أمة الإسلام” من الآثار والمكاسب المحسوسة أضعاف ما حققته الاعتراضات العامة والمظاهرات والحشود الطلابية التي لم تقف وراءها تنظيمات مستدامة وإنما لجان حشد مؤقتة. في منطقة العالم الثالث تحدث تغييرات محسوسة ومكاسب مستدامة أيضا عندما تكون هنالك تنظيمات واقفة وراء العمل الجماعي، وهذا أمر يمتد منذ حركات التحرر الوطني، في افريقيا وعموم العالم، إلى اليوم. عدا ذلك فإن أي مكاسب يمكن أن تحرزها حشود هي إما لا تكون مستدامة أو واضحة أو يتم اختطافها لاحقا ببساطة بواسطة تنظيمات بأجندة غير مشابهة لتلك الحشود. أحيانا هنالك تغييرات تاريخية تبدو كأنها منجزات حشود بالدرجة الأولى (مثل أكتوبر 1964 في السودان، ومثل أبريل 1985، وديسمبر 2018) لكن المآلات التاريخية هنا أحد ثلاثة في الغالب: إما بدأت الحشود ثم لحقت بها تنظيمات أدارت دفّتها نحو بر الأمان وتحقيق المطالب بصورة مستقرة، أو كانت التنظيمات فاعلة في عمليات الحشد من البداية فاستطاعت توجيهها بصورة معقولة (حتى لو لم تكن مديرة لها بصورة كاملة)، أو تم تحقيق مطالب تلك الحشود ولكن لفترة بسيطة لم تلبث أن انتكست مع غياب عرّابين وتنظيمات لها (أو ما يمكن تسميتهم بالقيادات والبرامج).

 

ما هي معالم أو طرق الانتقال من الحشد إلى التنظيم

تسيقيات لجان المقاومة وسعيها لوضع ميثاق مكتوب (أو وثائق مكتوبة ومتفق عليها) للحراك الثوري. خطوة في الاتجاه الصحيح، مهمة ولها ما بعدها.
الدعوة لمنصة مشتركة للجان المقاومة والنقابات والفاعلين الثوريين (الميدانيين) عموما، اتجاه تفكيري مناسبهذه مبادرات وأفكار تتخلق الآن. لو تطورت فهي ستكون قادرة على تحليق التنظيمات السياسية التقليدية في مركزها (وقادرة على فرز كيمانها) ومخاطبة الرأي العام كصوت كبير ومؤسس لما ظللنا نسميه "الشارع السوداني" وهو فاعل كبير لكنه ليس كيانا صاحب رأي وقرارات يمكن تتبعها وتطبيقها ومساءلتها، أي لم ينتقل بعد من الحشد إلى التنظيم. هذه التطورات ينبغي أن تتبلور في نواة، بحيث تبدأ المنصة تتشكل حول هذه النواة ثم تتجاوزها. 
لجان المقاومة يمكن أن تتحوّل لخلايا تنفيذية قوية، نعم. بيد أن الإشكالية حاليا هي أن لجان المقاومة تتشكّل وفق الموقع الجغرافي، ورغم أن الاستثمار الثوري في لجان المقاومة استثمار رابح، باعتبارها تعبير عضوي عن طموحات الحكم المحلي والبناء القاعدي، إلا أن الموقع الجغرافي ليس مشتركا كافيا لخلق مواقف سياسية متسقة أو لوجود مصالح مادية مستدامة (مثلا: نفس الحي يمكن أن يكون فيه عمّال وأصحاب عمل مثلا، أو لبراليين واشتراكيين، أو ثوريّين وإصلاحيين، وتناقضات أخرى كثيرة). أيضا "المقاومة" كتعبير مبني على رد الفعل (هنالك فعل أو عدو يجب مقاومته، فوجوده جزء أساسي من هوية لجنة المقاومةتعبير غير مستدام، إنما المبادرة والفعل هما المستدامان (ويشملان مقاومة الفعل المناقض). قبل اليوم قلنا إن هنالك فرصة لإعادة تأطير لجان المقاومة وتشكيلها كتعبير عن حكم محلي ثوري/جذري وليس عاديا، وهذه أطروحات تطرح عند عتبة لجان المقاومة وهم أصحاب القرار فيها. الشيء الذي نزعمه أن التنظيم وفق الحيّز الجغرافي المحلي في أحسن أحواله قد يولّد شعارات قوية عامة في زمن الثورة لكن على مستوى التنفيذ بحاجة لتنظيم شامل للبلاد، وتنظيم كهذا يحتاج لرؤية وهياكل، أي يحتاج لقوة فكرية وتنظيمية. 

 

قضايا متعلقة

شعارات الثورة: حرية سلام وعدالة، ربما يمكن أن نضيف لها "وتنمية"، لأن الطموحات الثلاثة المذكورة يحتاجان التنمية. والتنمية باعتبارها حقلا يشمل عدة وزارات وعدة مستويات حكم تحتاج لمفوضية. في كتابات سابقة، مثل وثيقة "هياكل الحكم وصناعة الدستور" (تجمع المهنيين السودانيين، أبريل 2019) [والتي وَضعت  نتيجة عمل مجموعة من الخبراء، ثم خرجت باسم التجمع]، جاء أنهيكون اسمها مفوضية التنمية المستدامة. المفوضية سمّيت هكذا لأنها انتقالية، لكن في الأوضاع المستقرة يمكن أن نسميها وكالة، بسلطات واسعة وارتباط مباشر برئاسة الدولة (مثل نموذج وكالة التحول الزراعي في أثيوبيا أو هيئة الإسكان في سنغافورة). وظيفة الوكالة هي جعل الخطة التنموية القُطرية هادية لكل السياسات والبرامج التي تخرج من الوزارات الأخرى، وهادية كذلك لكل القرارات والتوجيهات التي تصدر من رأس الدولة. هذاالتوجه آت من نموذج الدولة التنموية (developmental state)، وهو النموذج الذي استطاع تحويل عدة دول نامية في العقود الأربعة الاخيرة إلى دول متقدمة تنمويا وصناعيا. أيضا تكون هنالك مشاريع كبيرة ابتدارية، سُفن أميرال (flagship projects) لا تتبع لوزارة واحدة وإنما لقمة السلطة التنفيذية مباشرة (مع حق المساءلة والمراقبة والاستدعاء للسلطة التشريعية)، وهذه المشاريع غالبا ما تُشرف عليها المفوضية (أو الوكالة). بالنسبة لي، فالفكرة ان المفوضية هذه نفسها تتحوّل لوكالة بعد نهاية الفترة الانتقالية.

 

Comments
* The email will not be published on the website.