27 Feb
27Feb

الحوكمة و تحديات الإنتقال الديموقراطي في السودان،،


*محمدعلي الشمباتي*

محامي و مدافع عن حقوق الإنسان، عضو منظمة برامج الحوكمة.


*عند حدوث تغيير سياسي في الدولة، خصوصاً لو كان ذلك التغيير عبر إنتفاضة شعبية أسقطت حكم ديكتاتوري شمولي له تاريخ دموي حافل بجرائم القتل و الإغتصاب و التعذيب و الإختفاء القسري للمواطنين، فإن أول ما يفعله النظام الجديد هو تحقيق العدالة لضحايا النظام المباد و إنصافهم عبر حزمة إجراءات قانونية تخضع لمعايير و أسس الحوكمة في بلد ديموقراطي تبدأ بإلغاء التشريعات و القوانين المذلة و الحاطة بالكرامة الإنسانية التي كان يستخدمها النظام القديم مروراً بإصلاح أجهزة تطبيق القانون والعدالة إنتهاءً بمساعدة ضحايا الإنتهاكات و أسر الشهداء برفع الدعاوى الجنائية ضد المتهمين و القبض عليهم و محاكمتهم دون تأخير. لذا كان المأمول و المتوقع بعد ثورة ديسمبر المجيدة أن تقوم الحكومة بكل تلك الخطوات على وجه السرعة و تتأكد من إنفاذ القانون و سيادته على الجميع وفقاً لأحكام الوثيقة الدستورية و مبادئ حقوق الإنسان لجبر ضرر الضحايا و رد الإعتبار لهم و تعويضهم و معاقبة كل من أجرم في حق المدنيين العزَّل و المعتصمين سلميًا إبتداءً من 13 ديسمبر 2018 إلى مجزرة فض الإعتصام في الثالث من يونيو 2019 و ما بعدها، كل ذلك كان لابدَّ أن يسير جنباً إلى جنب مع المسائلة حول إنتهاكات حقوق الإنسان و جرائم نظام الإنقاذ منذ إنقلابه على الديموقراطية في العام ١٩٨٩.* 

*و لتطبيق سيادة حكم القانون من المهم إصدار تشريعات مبنية على قواعد الحوكمة الشاملة و المشاركة الشعبية فيها لأن ذلك أمر ضروري لحماية حقوق الإنسان حيث أنها تساعد المؤسسات التي تتراوح بين النظم الجنائية والمحاكم والبرلمانات على تنفيذ هذه التشريعات على نحو أفضل و فعَّال لأن الجميع يكون قد شارك في صياغتها. و يمكن أن تشمل مبادرات الحوكمة الشاملة الدعوة إلى زيادة الوعي العام بالحقوق في الإطار القانوني الوطني والدولي، و الإصلاح القانوني وبناء القدرات و مراجعة مؤسسات العدالة.*


*و من أولى خصائص و مبادئ الحوكمة العامة وجود شرعية للسلطة نابعة من سلطة الشعب و تفويضه، و الحكومة الحالية تتوفر فيها هذه الصفة، إضافةً لبناء أجسام و نقابات و مجلس تشريعي يستطيع من خلاله المواطنين مراقبة أداء السلطة التنفيذية و تقديم مساهمتهم في عملية صنع القرار (و هذه غير موجودة و يجب أن نسعى لها و نحققها) بحيث يكون لجميع الرجال والنساء صوت في صنع القرار، إما مباشرة أو عن طريق مؤسسات وسيطة شرعية تمثل مصالحهم. وتقوم هذه المشاركة الواسعة على دستور يحمي و يصون حرية التنظيم و تكوين الجمعيات و النقابات و حرية التعبير و الصحافة، فضلاً عن القدرات و الكفاءة على المشاركة البناءة.*

*الحوكمة الشاملة إذن هي عملية تكاملية لإدارة شؤون الدولة يشترك في هذه العملية الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني من منظمات وأفراد، مع الأخذ بالإعتبار إختلاف المهام لكل جهة، فهي تُساهم في فعالية السياسة العامة للدولة عن طريق مشاركة المواطنين في إقرار السياسات والبرامج العامة واتخاذ القرارات بالإضافة إلى الدّور الذي تلعبه منظمات المجتمع المدني في تعزيز الرقابة والمساءلة على الأداء الحكومي. أيضا يساهم تطبيق عناصر الحوكمة الشاملة في حماية حقوق الإنسان و دعم و تعزيز مشاركة الأقليات في إدارة شؤون الدولة.*

*في تقديري أن وضع الإنتقال في السودان معقد و عصيّ على الوصف لأننا لو ألقينا نظرة على تجارب بعض الدول التي مرت بظروف سياسية مشابهة لوجدنا أن هنالك فرق واضح يتمثل في أن النظام الذي أسقطه الشعب دائماً ما تتم تصفية مؤسساته بالكامل و الحكومة الجديدة تسمى بحكومة إنتقالية تعمل على بعض الإصلاحات الإقتصادية والقانونية و تهيئة الأوضاع لإجراء إنتخابات نزيهة لتحقيق الإنتقال الديموقراطي السلس و المستدام علاوةً على إنصاف الضحايا عبر العدالة الإنتقالية وهي مفهوم شامل يتعلق بمعرفة الحقائق عن الإنتهاكات التي وقعت و نوع الجرائم و القصاص أو العفو و جبر الضرر و التعويض و غير ذلك. و لكن في الحالة السودانية الراهنة فقد تم السماح لجزء من النظام الساقط بالمشاركة في السلطة و سمينا ذلك تجاوزاً بالفترة الإنتقالية و هذا توصيف غير دقيق لأن مفهوم الإنتقال يعني إنتهاء عهد بالكامل و بداية عهد جديد خالي من رموز النظام المباد و قواته الأمنية و مليشياته، لذا فإننا يجب أن نتحدث عن العدالة الجنائية للضحايا و ليست العدالة الإنتقالية (و الفرق بينهما شاسع) لأن مفهوم العدالة الإنتقالية كان سيكون منطبقاً لو أن رئيس و قادة نظام المؤتمر الوطني المقبور تنازلوا عن السلطة بمحض إرادتهم أو توصلوا لتسوية مع القوى السياسية و المجتمع المدني و فئات الشعب الأخرى و قبلوا بمبدأ المحاسبة و المسائلة و تكونت لجان للحقيقة و الإنصاف و المصالحة، و أيضاً لأن التوصيف السياسي ينسحب بالضرورة على قضايا ما بعد الإنتقال بما فيها الوضع القانوني و العدلي، و هذا أمر يطول الحديث عنه ولا يتسع المقال لذكره.*

سوف نتحدث في المقال القادم عن تعريف مختصر للعدالة الجنائية و العدالة الإنتقالية و قضية شهداء ثورة ديسمبر المجيدة.


الموقع الالكتروني 

 www.governance-programming.org/

البريد الالكتروني

Sudan@governance-programming.org

Comments
* The email will not be published on the website.